
غابرييل غارسيا ماركيز عربي، على الأقل في نظر الشرطة الفرنسية. فنهاية 1960، وبينما كان يقوم بواجبه الصحافي في تغطية مظاهرات جزائريين بباريس ضد الاحتلال الفرنسي، ألقي القبض عليه، وقضى ليلة في السجن خطأ. وصرح الروائي الكولومبي لاحقاً ساخراً: «اعتقدوا أني عربي. كانت القضية الجزائرية التي دافعت عنها هي القضية الوحيدة التي زرت من أجلها سجناً». بالمقابل، علاقة العرب مع غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) تمتد على طول عقود من ترجمة لأعماله وقراءتها، وسؤال كبير يطرح: ما الذي منح إبداعه الروائي هذا التميز؟
لعل أول إجابة تطرأ على الذهن هي لقاء الواقعية بالغرائبية في رواياته، الذي هو امتداد لما عاشه في طفولته مع جديه، حتى بدت القصص الخرافية جزءاً من حياته اليومية! حتى إن أسرته اضطرت لترك مسكنها، الذي قتلت فيه امرأة، بسبب خوفها من زياراتها الليلية للبيت!
ومما أغنى مخيلته أيضاً أنه عرف نمطين متناقضين للحياة (الوفرة والفقر) إذ اضطر والده إلى ترك أسرته بحثاً عن لقمة العيش عدة مرات، فعاشت الأسرة في بيت الجد، الذي افتقر، واضطر إلى إلغاء طقس إعداد الغداء للضيوف المجهولين!
وقد كان لشغفه بالقراءة منذ تفتح وعيه في مكتبة جده، أكبر الأثر على تكوينه الإبداعي، وقد لفت نظره كافكا في «المسخ» إذ لازمته لهفة لا تقاوم من أجل العيش في ذلك الفردوس الغريب، حتى إنه حاول أن يشبه موظفه المسكين الذي تحوّل إلى صرصار ضخم، كما توحّد ماركيز مع روايات فوكنـر، بسبب ما تلمّسه لديه من تشابهات متنوعة مع ثقافة الكاريبي.
ومما أثّر في تكوينه أيضاً لقاؤه بمجموعة من الصحافيين والأدباء والرسامين، ساعدته على التطور، وبثّت في نفسه الحماسة، التي ستكفيه إلى الأبد، على حد قوله.
وقد تنوّعت مكتبته، حيث يمكننا أن نجد فصلاً لدوستويفسكي، وفي الوقت نفسه كتاباً حول مصرع يوليوس قيصر، أو حول آلية مفحّم السيارة، أو مرجعاً عن الاغتيالات الناجحة!!
أما المؤثر الأهم في أدبه فهو عمله في الصحافة، التي مارسها منذ وقت مبكر، بعد أن حاز الشهادة الثانوية، ومع أنه بدأ حياته الأدبية بالقصة القصيرة، لكن الذي ساعده مادياً، على حد قوله، هو تلك المكافأة التي كانت تدفع له مقابل ملاحظاته الصحافية اليومية في جريدة «الهيرالدو».
وقد مارس جميع الأعمال الصحافية، فكتب الزاوية اليومية، الافتتاحية، المقالة في الأدب أو النقد أو السينما، بالإضافة إلى كتابة التحقيق الصحافي، الذي كان من أقرب الفنون الصحافية إلى نفسه، حتى إنه يراه والرواية ابنين للأم نفسها، لهذا حوّل بعض التحقيقات إلى رواية، مثل «قصة غريق» و«نبأ اختطاف» و«حكاية موت معلن» التي نشرها بعد ثلاثين سنة من حدوثها، فهي تحقيق أجراه في مقتل أحد جيرانه.
بالإضافة إلى ذلك قام باقتباس رواية وتحويلها إلى تمثيلية إذاعية، وقد كانت تجربة مفيدة بسبب عدم خبرته في شؤون الحوار، وهو برأيه مازال نقطة ضعفه، لهذا وجد في هذه التجربة فرصة مفيدة من أجل التعلّم أكثر مما هي في الكسب المادي.
وقد أضحت السينما تشكل جزءاً هاماً من مكونات ماركيز وجزءاً من هاجسه الفني، وأسس (ورش) عمل سينمائية، ومارس كتابة السيناريو والإخراج، ووجدناه ينتهي عام 1995 من إعداد صياغة جديدة لرائعة سوفوكليس «أوديب ملكاً» للسينما، وقد ألّف في هذا الفن عدة كتب.
ولشدة إعجابه بالفن السابع أنشأ معهداً للسينما في هافانا، تبرع له من مبلغ جائزة نوبل (حصل عليها 1982) وبات محاضراً فيه.
ومما أسهم في تكوينه الإبداعي تطور الحس النقدي، فقد شغله سؤال: كيف كُتبت الأعمال العظيمة التي أسرته؟ لهذا قام بإعادة قراءتها، مسلحاً برؤية نقدية ثاقبة.
ماركيز لم ينشر روايته الخالدة «مئة عام من العزلة» إلا بعد أن عانى هموم الكتابة مدة عشرين سنة، مما صقل موهبته، فازدادت خبرته الأدبية وإحساسه النقدي!
وهكذا تعلّم النقد بفضل صداقة المثقفين، والأغرب من ذلك تعلمه من الفشل، حين رُفضت أولى رواياته، فبات يقيس نجاح أي عمل أدبي بعدد مسوداته، أي بمدى التنقيحات التي يجريها المبدع! مما يعكس نضجه النقدي! لهذا كان يلازمه إحساس بالخوف كلما أنجز كتاباً، إذ يؤرقه أن يكون عاجزاً عن إبداع آخر أفضل منه، فالاستمرار في الكتابة لا يعني شيئاً، إذا لم يشكل تطوراً في المسيرة الفنية.
وهكذا فإن التصويبات الكثيرة التي كان يجريها ماركيز على إبداعه تعدّ نوعاً من النقد الذاتي، الذي يمارسه الكاتب نتيجة وعي نقدي، هو خلاصة الثقافة والخبرة الإبداعية.
بفضل ذائقته النقدية استطاع أن يستغني عن رواية كتبها (بعنوان «البيت») إذ بدت له بعد أن عمل فيها ستة أشهر أنها غير موفقة!! وقد أعاد كتابتها من جديد بعد فترة، فغيّر عنوانها وتجاوز نقاط الضعف التي وجدها فيها.
إن عادة التنقيح لن نجدها إلا لدى كاتب يحس بمسؤولية الكلمة التي يوجهها إلى المتلقي، ولدى كاتب يسعى إلى تنمية ذائقته النقدية، وهي دليل على فهمه العميق للجنس الأدبي الذي يكتب فيه (الرواية).
ومن الأفكار النقدية اللافتة لديه أنه على نقيض ما يرى بعض الكتاب في مقص الرقيب، فقد شكل «تحدياً خلّاقاً» إذ إن التحايل عليه يدفع المبدع إلى الابتكار.
بحث ماركيز عن الأصالة، التي هي خصوصية تبعد الأديب عن تقليد الآخر، وقد بيّن أن أديب أميركا اللاتينية يحاول تجاوز العزلة عن طريق الإبداع، ليتجاوز العنف اللامحدود والظلم المسكوت عنه بسبب جشع الغربي للثروات الطبيعية التي تزخر بها هذه البلاد، مما أدى إلى ميتات يومية عصية على الإحصاء، تعرض لها شعبه، وقد أسهم هذا البؤس في تعزيز مصدر الإبداع النهم المليء بالأسى والجمال.
إن بحث ماركيز عن التميّز في كل ما كتب، دفعه إلى تطوير ممارسته الإبداعية، فاستطاع أن يقدّم عبر الرواية عالماً مدهشاً في جماله وعمقه الإنساني.
لعل أول إجابة تطرأ على الذهن هي لقاء الواقعية بالغرائبية في رواياته، الذي هو امتداد لما عاشه في طفولته مع جديه، حتى بدت القصص الخرافية جزءاً من حياته اليومية! حتى إن أسرته اضطرت لترك مسكنها، الذي قتلت فيه امرأة، بسبب خوفها من زياراتها الليلية للبيت!
ومما أغنى مخيلته أيضاً أنه عرف نمطين متناقضين للحياة (الوفرة والفقر) إذ اضطر والده إلى ترك أسرته بحثاً عن لقمة العيش عدة مرات، فعاشت الأسرة في بيت الجد، الذي افتقر، واضطر إلى إلغاء طقس إعداد الغداء للضيوف المجهولين!
وقد كان لشغفه بالقراءة منذ تفتح وعيه في مكتبة جده، أكبر الأثر على تكوينه الإبداعي، وقد لفت نظره كافكا في «المسخ» إذ لازمته لهفة لا تقاوم من أجل العيش في ذلك الفردوس الغريب، حتى إنه حاول أن يشبه موظفه المسكين الذي تحوّل إلى صرصار ضخم، كما توحّد ماركيز مع روايات فوكنـر، بسبب ما تلمّسه لديه من تشابهات متنوعة مع ثقافة الكاريبي.
ومما أثّر في تكوينه أيضاً لقاؤه بمجموعة من الصحافيين والأدباء والرسامين، ساعدته على التطور، وبثّت في نفسه الحماسة، التي ستكفيه إلى الأبد، على حد قوله.
وقد تنوّعت مكتبته، حيث يمكننا أن نجد فصلاً لدوستويفسكي، وفي الوقت نفسه كتاباً حول مصرع يوليوس قيصر، أو حول آلية مفحّم السيارة، أو مرجعاً عن الاغتيالات الناجحة!!
أما المؤثر الأهم في أدبه فهو عمله في الصحافة، التي مارسها منذ وقت مبكر، بعد أن حاز الشهادة الثانوية، ومع أنه بدأ حياته الأدبية بالقصة القصيرة، لكن الذي ساعده مادياً، على حد قوله، هو تلك المكافأة التي كانت تدفع له مقابل ملاحظاته الصحافية اليومية في جريدة «الهيرالدو».
وقد مارس جميع الأعمال الصحافية، فكتب الزاوية اليومية، الافتتاحية، المقالة في الأدب أو النقد أو السينما، بالإضافة إلى كتابة التحقيق الصحافي، الذي كان من أقرب الفنون الصحافية إلى نفسه، حتى إنه يراه والرواية ابنين للأم نفسها، لهذا حوّل بعض التحقيقات إلى رواية، مثل «قصة غريق» و«نبأ اختطاف» و«حكاية موت معلن» التي نشرها بعد ثلاثين سنة من حدوثها، فهي تحقيق أجراه في مقتل أحد جيرانه.
بالإضافة إلى ذلك قام باقتباس رواية وتحويلها إلى تمثيلية إذاعية، وقد كانت تجربة مفيدة بسبب عدم خبرته في شؤون الحوار، وهو برأيه مازال نقطة ضعفه، لهذا وجد في هذه التجربة فرصة مفيدة من أجل التعلّم أكثر مما هي في الكسب المادي.
وقد أضحت السينما تشكل جزءاً هاماً من مكونات ماركيز وجزءاً من هاجسه الفني، وأسس (ورش) عمل سينمائية، ومارس كتابة السيناريو والإخراج، ووجدناه ينتهي عام 1995 من إعداد صياغة جديدة لرائعة سوفوكليس «أوديب ملكاً» للسينما، وقد ألّف في هذا الفن عدة كتب.
ولشدة إعجابه بالفن السابع أنشأ معهداً للسينما في هافانا، تبرع له من مبلغ جائزة نوبل (حصل عليها 1982) وبات محاضراً فيه.
ومما أسهم في تكوينه الإبداعي تطور الحس النقدي، فقد شغله سؤال: كيف كُتبت الأعمال العظيمة التي أسرته؟ لهذا قام بإعادة قراءتها، مسلحاً برؤية نقدية ثاقبة.
ماركيز لم ينشر روايته الخالدة «مئة عام من العزلة» إلا بعد أن عانى هموم الكتابة مدة عشرين سنة، مما صقل موهبته، فازدادت خبرته الأدبية وإحساسه النقدي!
وهكذا تعلّم النقد بفضل صداقة المثقفين، والأغرب من ذلك تعلمه من الفشل، حين رُفضت أولى رواياته، فبات يقيس نجاح أي عمل أدبي بعدد مسوداته، أي بمدى التنقيحات التي يجريها المبدع! مما يعكس نضجه النقدي! لهذا كان يلازمه إحساس بالخوف كلما أنجز كتاباً، إذ يؤرقه أن يكون عاجزاً عن إبداع آخر أفضل منه، فالاستمرار في الكتابة لا يعني شيئاً، إذا لم يشكل تطوراً في المسيرة الفنية.
وهكذا فإن التصويبات الكثيرة التي كان يجريها ماركيز على إبداعه تعدّ نوعاً من النقد الذاتي، الذي يمارسه الكاتب نتيجة وعي نقدي، هو خلاصة الثقافة والخبرة الإبداعية.
بفضل ذائقته النقدية استطاع أن يستغني عن رواية كتبها (بعنوان «البيت») إذ بدت له بعد أن عمل فيها ستة أشهر أنها غير موفقة!! وقد أعاد كتابتها من جديد بعد فترة، فغيّر عنوانها وتجاوز نقاط الضعف التي وجدها فيها.
إن عادة التنقيح لن نجدها إلا لدى كاتب يحس بمسؤولية الكلمة التي يوجهها إلى المتلقي، ولدى كاتب يسعى إلى تنمية ذائقته النقدية، وهي دليل على فهمه العميق للجنس الأدبي الذي يكتب فيه (الرواية).
ومن الأفكار النقدية اللافتة لديه أنه على نقيض ما يرى بعض الكتاب في مقص الرقيب، فقد شكل «تحدياً خلّاقاً» إذ إن التحايل عليه يدفع المبدع إلى الابتكار.
بحث ماركيز عن الأصالة، التي هي خصوصية تبعد الأديب عن تقليد الآخر، وقد بيّن أن أديب أميركا اللاتينية يحاول تجاوز العزلة عن طريق الإبداع، ليتجاوز العنف اللامحدود والظلم المسكوت عنه بسبب جشع الغربي للثروات الطبيعية التي تزخر بها هذه البلاد، مما أدى إلى ميتات يومية عصية على الإحصاء، تعرض لها شعبه، وقد أسهم هذا البؤس في تعزيز مصدر الإبداع النهم المليء بالأسى والجمال.
إن بحث ماركيز عن التميّز في كل ما كتب، دفعه إلى تطوير ممارسته الإبداعية، فاستطاع أن يقدّم عبر الرواية عالماً مدهشاً في جماله وعمقه الإنساني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق